أدب الإهداء في الرسائل الجامعية
هناك أدب خاص في ثنايا بعض الرسائل الجامعية، أدب لا علاقة له بتخصص تربوي أو طبي أو هندسي، ولا شأن للغة الرسالة به، إنه أدب يسطره قلة من الباحثين في صفحة الإهداء، وفاءً وتقديراً لمن له فضل عليهم بعد الله.
وبطبيعة الحال، فإن معظم إهداءات الرسائل الجامعية تكون تقليدية جافة، وتقع في نطاق مالا طعم له، ولا لون، ولا رائحة، لأن الباحث يكتبها على عجل أو وجل، وقد أنهكته مراسم البحث والكتابة، وأقضت مضجعه هموم إنهاء الرسالة وقرب مناقشتها، بعد أن سهر وبذل الجهد، واشتبك ليله بنهاره جراء انهماكه بالبحث والتدوين، وربما بات في ليال كثيرة يردد قول امرؤ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف إعجازا وناء بكلكلِ
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ
معتقداً أن من قالها كان يكتب رسالة علمية مماثلة في ذلك الزمن الجاهلي السحيق.
والأدب محور الحديث لا يدخل في محيطه إهداءات المجاملة للأساتذة والمشرفين خوفاً منهم او اتقاءً لشرهم في كثير من الأحيان، ولا يدخل من ضمنه إهداءات السرد والمبالغة التي تتعدى الأسرة الصغيرة لتشمل أبناء العمومة والأخوال وأصدقاء الجامعة والحي الطفولة. ذلك الأدب هو أدب راق يكتب بماء الذهب، لأن كلماته تسطر الوفاء بأجمل معانيه، وعباراتها تشعرك بروعة الحب، ومعانيها تنزف بالمودة، ولا تشك للحظة واحدة أنها كلمات خرجت من قلب لتخترق شغاف قلب آخر، وتستقر في جنباته. والأمثلة كثيرة على مثل هذه الإهداءات، ولعلي أذكر بعضاً منها:
يقول أحدهم في إهداء لوالده:
إلى من كلل العرق جبينه.. وشققت الأيام يديه
إلى من علمني أن الأعمال الكبيرة لاتتم إلا بالصبر والعزيمة والإصرار
إلى والدي أطال الله بقاءه، وألبسه ثوب الصحة والعافية، ومتعني ببره ورد جميله،
أهدي ثمرة من ثمار غرسه
وآخر يقول لأمه:
إليك أماه.. قطرة في بحرك العظيم.. حباً وطاعة وبرا
وكتب أحدهم في إهداء لأمه فقال:
إلى من نذرت عمرها في أداء رسالة
صنعتها من أوراق الصبر
وطرزتها في ظلام الدهر
على سراج الأمل
بلا فتور أو كلل
رسالة تعلم العطاء كيف يكون العطاء
وتعلم الوفاء كيف يكون الوفاء
إليك أمي أهدي هذه الرسالة
وشتان بين رسالة ورسالة
جزاك الله خيراً.. وأمد في عمرك بالصالحات
فأنت زهرة الحياة ونورها
وعزف باحث آخر على وتر حزين مهدياً كلماته لروح أمه الطاهرة فيقول:
إلى أمي
خيمة الحنان وغيمة المكان
تحملني دائماً بين يديها دعاء متصل.. للسماء
(قرأت لها هذا الإهداء قبل فجائية موتها) وأضفت
إلى روح حبيبتي أهدي روحي وكل طموحي
ولم ينس باحث آخر زوجته التي شاركته الرحلة نحو حلم إنجاز الرسالة، فسطر ما يلي في صفحة الإهداء:
بكل الحب.. إلى رفيقة دربي
إلى من سارت معي نحو الحلم.. خطوة بخطوة
بذرناه معاً.. وحصدناه معاً
وسنبقى معاً.. بإذن الله
جزاك الله خيراً
ولم ينس أحد الباحثين أخاه ووقفته إلى جانبه فكتب:
إليك حبيبي أحضرت شيئاً من الثمر
فأنت سقائي بعد الله.. وأنت المطر
ومن أعجب ما قيل في الاهداءات قول أحدهم في صفحة الإهداء وكان يقصد أحد المشرفين على رسالته:
إلى من ظلمني..
(ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار)
وقد كاد هذا الإهداء يتسبب في عدم إجازة الرسالة عند مناقشتها ولا سيما أن مناقشة الإهداء استغرق جزءاً غير قليل بين معارض لهذا الهجوم.. وبين من يرى أن صفحة الإهداء هي الصفحة الوحيدة التي لا يحق لأحد مناقشتها لأنها من حق الطالب.. وله أن يعبر فيها عن نفسه بما يشاء..
وبما أن عبارات الإهداء هي عبارات خاصة، وكلمات شاعرية أحياناً، فقد شاع لدى البعض عمل نسخة خاصة من رسالته ليهديها إلى من يحب بعد أن يسطر عليها إهداء خاصاً لا يذهب إلا لمكتبة من يحبون!
إن أدب الإهداء في الرسائل الجامعية أدب جميل وماتع، وحري بالباحثين الاهتمام بإهداءاتهم لأنها ستبقى متربعة على صدر رسائلهم التي يفتخرون بإنجازها.